البريكس ونظام عالمي جديد- تحول السلطة وتحديات الهيمنة

تمثل مجموعة دول بريكس، التي تضم الصين والهند وروسيا وجنوب أفريقيا والبرازيل، قوة ديموغرافية واقتصادية هائلة على مستوى العالم. فهي تحتضن ما يقارب 45% من سكان المعمورة، ويقطنون في مساحة جغرافية تقدر بنحو 34% من إجمالي مساحة كوكبنا. والأكثر من ذلك، تسهم هذه الدول بنحو 37% من إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي، كما أنها تعد من بين المنتجين الرئيسيين للغذاء، حيث تنتج ما يقارب 45% من إنتاج القمح العالمي.
تمثل قمة قازان الأخيرة، وهي الاجتماع السادس عشر لقادة دول البريكس منذ تأسيس هذا التكتل، نقطة تحول محتملة نحو نظام عالمي جديد. لا يقتصر الأمر على تأكيد إعلان قازان على الحاجة الماسة إلى إعادة تشكيل النظام العالمي الحالي، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، وتصفه بأنه نظام أحادي القطب وغير عادل ويتجاهل الحقائق العالمية المستجدة.
بل إن مجموعة "بريكس بلس" تطرح نفسها ككيان مفتوح وشامل، لا يتبنى أيديولوجيات محددة، ويسعى إلى التوسع ليشمل جميع دول العالم دون قيود أو حواجز. ومن الجدير بالذكر أن ثلاثًا من الدول الخمس المؤسسة لهذا التكتل تتمتع بنظام حكم ديمقراطي، وهو ما يعكس طبيعة هذا التحالف القائم على المصالح المشتركة والتعاون البناء.
لقد أُطلق على البيان الختامي لقمة بريكس بلس الأخيرة اسم "إعلان قازان"، وهو عبارة عن وثيقة جامعة وشاملة تتألف من 134 مادة، وتتناول جميع القضايا العالمية الهامة، بدءًا من الثقافة وصولًا إلى السياسة والاقتصاد.
وقد أشار الإعلان بوضوح إلى أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يمثل بنية غير ديمقراطية وغير تمثيلية، حيث يستبعد العديد من الأمم والقارات، ويقتصر على تمثيل أقلية مهيمنة. وأكد الإعلان، مرارًا وتكرارًا، أن النظام العالمي بشكله الحالي لم يعد مناسبًا لعالم اليوم، وأنه لم يعد نظامًا عالميًا بالمعنى الحقيقي.
تحت شعار "البريكس والجنوب العالمي: بناء عالم أفضل معًا"، تمت دعوة العشرات من الدول والمؤسسات الدولية والإقليمية لحضور قمة قازان. وبموافقة ما يزيد عن ثلاثين دولة، تم إطلاق "إعلان قازان". ومن اللافت للنظر أن الإعلان استخدم كلمة "عادل" 15 مرة، وهو ما يعكس الطموح الذي تسعى مجموعة البريكس إلى تحقيقه.
إن الأحداث الجارية في العالم، تحت إدارة المؤسسات التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية، تفتقر إلى العدالة والإنصاف. فالنظام العالمي الحالي يعمل بشكل أساسي لصالح مجموعة صغيرة من الدول، وعلى رأسها دول مجموعة السبع G-7، التي تمثل أقل من 15% من سكان كوكب الأرض.
إن التركيز المتزايد على قضية العدالة والإنصاف يجعل من هذا الإعلان أقرب إلى بيان ثوري شامل منه إلى مجرد وثيقة في السياسة العامة. ويمكن القول إنه يمثل تحديًا صريحًا ومواجهة مفتوحة مع النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المقابل، تبدو الأمور في الولايات المتحدة أكثر تشتتًا وضبابية.
فبينما يسعى الديمقراطيون جاهدين للحفاظ على النظام العالمي القائم، معتبرين إياه شبكة من التحالفات أكثر من كونه نظامًا دوليًا متكاملًا، يتبنى الجمهوريون رؤية مناقضة تمامًا.
في مقابلته المطولة مع وكالة بلومبيرغ نيوز قبل عدة أسابيع، صرح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأن حلفاء الولايات المتحدة الغربيين قد استنزفوا موارد بلاده أكثر من خصومها، وأن الكلمة المفضلة لديه هي "التعريفات". وتعهد بتقويض النظام التجاري الدولي القائم على التدفق الحر للسلع والأفكار، وذلك من خلال فرض تعريفات جمركية باهظة.
ليست مجموعة "بريكس بلس" وحدها هي التي تسعى إلى تقويض النظام العالمي الراهن وبناء نظام جديد أكثر عدالة وتوازنًا. فقد انضم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يعتبر من أكثر القادة الأوروبيين تشاؤمًا بشأن مستقبل القارة، إلى قافلة الدول والشخصيات التي قررت العمل على تفكيك النظام العالمي الحالي.
وفي كلمته أمام "حوار برلين الدولي"، الذي انعقد تحت عنوان "مستقبل أوروبا في عالم متعدد الأقطاب"، صرح ماكرون بأن الصين تنتهك قواعد النظام العالمي منذ ربع قرن، وأن الولايات المتحدة الأمريكية قد انضمت إليها مؤخرًا في هذا المسعى. وحذر ماكرون من أن الدول الأوروبية يجب ألا تكون الطرف الوحيد الملتزم بقواعد النظام العالمي القائم.
تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية ما يزيد عن 700 قاعدة عسكرية منتشرة في جميع قارات العالم، وتسيطر على حوالي 95% من بحار العالم. إلا أن خصومها الكبار، وعلى رأسهم الصين، يرون حقيقة أخرى وراء هذه القوة العسكرية الهائلة، وهي اقتصاد يعاني من أزمات متفاقمة.
فأكبر قوة عظمى في تاريخ البشرية، كما يحلو للرئيس الأمريكي جو بايدن أن يصفها، غارقة في الديون، وتتزايد ديونها بمعدل تريليون دولار سنويًا. ولذلك، فإن الخروج من نظام دولي يقوده اقتصاد يعاني من المشاكل أصبح أمرًا ملحًا، على الأقل هذا ما يراه الاقتصاديون الذين أصابتهم الصدمة جراء ما حدث للأسواق المالية في عام 2008.
تعد مجموعة البريكس بإعادة بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، يقوم على التنوع والتشارك، ويكفل إقامة علاقات متوازنة بين دول الشمال والجنوب. إنه شكل جديد من العولمة تطرحه البريكس، ليحل محل العولمة الأمريكية التي تقوم على فكرة التجارة الدولية في اتجاه واحد، حيث تتدفق الأفكار والسلع وحتى الأفراد من الشمال إلى الجنوب فقط، وليس العكس. ولكن ما إن بدأت أعداد الأفراد والبضائع في الاقتراب من الحدود، حتى انتفض اليمين الغربي وطالب بإغلاق الحدود.
لقد خصص "إعلان قازان" فقرة مطولة للقضية الفلسطينية في المادة رقم 30 من بيانه. وأكد النص على دعم المجموعة الكامل لعضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، وذلك في إطار "دعمها اللامحدود لحل الدولتين". كما أدان الإعلان الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وأيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
لقد بات من الواضح أن مجموعة "بريكس بلس" تمثل الأغلبية الساحقة من دول العالم. وفي قمة قازان، حضر ممثلون عن دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط، بالإضافة إلى ممثلين عن العديد من المنظمات الدولية والأمم المتحدة. وحتى كوبا وصربيا، اللتان تنظر إليهما الدول الغربية بنوع من الريبة، وجهت إليهما الدعوة، وحضر ممثلون عنهما. ويبدو أن العالم ينتقل تدريجيًا من "إجماع واشنطن"، الذي يمثل القواعد الاقتصادية والسياسية الأمريكية التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى "إجماع بكين".
إن الانهيار المفاجئ الذي أصاب السوق "النيوليبرالية" في العامين 2008-2009 قد مهد الطريق لما بات يُعرف منذ ذلك الحين بـ "إجماع بكين"، أو النموذج الصيني في الاقتصاد والسياسة. وفي تلك الساعات الحرجة من عام 2008، كتب فوكوياما عن ما أسماه "ليبرالية رعاة البقر"، وذلك بعد عقدين من دراسته الشهيرة حول تلك الليبرالية باعتبارها النهاية السعيدة للكفاح البشري نحو الكمال.
يقوم النموذج الصيني، كما يرى المفكر الصيني فيكتور غاو، على تضافر جهود جميع مؤسسات الدولة القوية والفعالة لتحقيق هدف واحد. ويرى غاو أن هذا النموذج أكثر جدارة من الديمقراطية التي تؤدي إلى تغيير الحكومات بشكل متكرر. إن البديل الذي تقدمه بكين للديمقراطية هو "الجدارة السياسية"، وهو نظام حكم يقوم على الكفاءة والاحترافية، كما لاحظ دانييل بيل في بحثه المهم حول "نموذج الصين".
يتحدث الآسيويون، وليس الصين وحدها، عن القيم الآسيوية، تلك التي تضع المجتمع في المقام الأول وليس الفرد، كما جادل لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة السابق. وإذا كانت الديمقراطية الغربية، وفي صميمها مدونة حقوق الإنسان، تلائم الحياة التي تتمحور حول الفرد، فإن ما يلائم الأمم التي تضع المجتمع قبل الفرد سيكون مختلفًا بالتأكيد.
يعتمد النموذج الصيني على تحدي الديمقراطية الليبرالية، مدعيًا أن النظام الشمولي الفعال سيكون قادرًا على إنجاز المهمة الأساسية، وهي رفع مستوى الرفاهية وحماية السلم الاجتماعي. لقد عملت الصين بدأب على الترويج لهذه الفكرة، وباتت الليبرالية الغربية تدرك أن النموذج الصيني قد حقق إنجازًا اقتصاديًا غير مسبوق في التاريخ البشري، حيث نجح خلال ربع قرن في نقل ما يزيد عن نصف مليار نسمة من الفقر المدقع إلى مستوى الرفاهية.
وإلى جانب الصين، قدم الآسيويون بشكل عام "أكثر معجزات التنمية استدامة في القرن العشرين"، وفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة. إن السحب الصينية تلقي بظلالها على العالم الغربي الممتد من برلين إلى واشنطن، وفي ألمانيا أصبح الحديث شائعًا حول الشكل الذي سيبدو عليه العالم حين تقوم دولة سلطوية بوضع قواعده ورسم حدوده.
قبل وقت قريب نسبيًا، كتب توماس فريدمان، في صحيفة "نيويورك تايمز"، مخاطبًا الأمريكيين: "استعدوا، نحن نتراجع إلى المركز الثاني". تفرض الصين إجماعها على المركز الأول في طيف واسع من الإنجازات، بدءًا من تصدير السيارات، حيث احتلت المركز الأول عالميًا بتصدير ما يزيد عن نصف مليون سيارة شهريًا بحسب "فايننشال تايمز"، وصولًا إلى إنتاج الطاقة المتجددة، حيث تتصدر دول العالم استثمارًا وإنتاجًا في هذا المجال.
وإذا نظرنا إلى البيانات التي نشرتها مؤسسة "Statista" الألمانية المتخصصة في الدراسات الإحصائية، فسنجد أنفسنا أمام رقمين يحملان دلالات عميقة. الأول: استهلكت الصين في عام 2023 طاقة بمقدار 170.8 إكساجول، مقابل 94 للولايات المتحدة، و11 لألمانيا. أما إجمالي ما استهلكته من الكهرباء في عام 2022 فبلغ 8 آلاف تيرا-وات، مقابل 4 لأمريكا، و1.3 للهند.
هذا هو الشكل الذي يبدو عليه مصنع العالم، والتحدي الإستراتيجي الأكثر تعقيدًا للعالم الغربي. تستهلك الصين كل هذه الطاقة داخل مساحة شاسعة تقارب مساحة الولايات المتحدة، وتنعم باستقرار سياسي ملحوظ.
لم يعد من الممكن إيقاف الصين ولا منافستها. ففي عام 2011، ضحك إيلون ماسك بصوت عالٍ عندما سألته مذيعة "بلومبيرغ" عن رأيه في السيارات الكهربائية الصينية. ولكن مؤخرًا، أطلق ماسك نداءً إلى الحكومة الأمريكية يطالبها بضرورة فرض تعريفات جمركية ضد السيارات الكهربائية الصينية، قائلًا إن ترك الأبواب مفتوحة أمامها سيجعلها تقضي على جميع منافسيها. فالصينيون "ينتجون سيارات كهربائية رائعة جدًا"، بحسب كلماته التي نقلتها "رويترز".
في مواجهة هذا التحدي المتصاعد، يجد الغرب نفسه أمام ضرورة حتمية لإعادة التفكير في استراتيجياته الاقتصادية والصناعية. فالصين لم تعد مجرد مصنع للعالم، بل أصبحت أيضًا مختبرًا للابتكار والتكنولوجيا، وباتت تنافس بقوة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، التي تعتبر حجر الزاوية في الاقتصاد المستقبلي.
أمريكا وأوروبا، في هذا السياق الحساس، مطالبَتان بإعادة صياغة قواعد اللعبة، ليس فقط من خلال الحماية الجمركية أو السياسات الحمائية، بل أيضًا من خلال تعزيز الابتكار وتطوير بنية تحتية قادرة على مواجهة التحديات القادمة.
في الوقت ذاته، تعمل مجموعة "بريكس بلس" على توسيع نطاق تأثيرها الجيوسياسي من خلال إقامة تحالفات جديدة متنوعة، والسعي الحثيث نحو تحقيق توازن جديد في النظام العالمي. هذا التوازن المنشود يستند إلى فكرة التعددية القطبية والتشارك الفعال في صنع القرار الدولي، بعيدًا عن الهيمنة الغربية التي طال أمدها لعقود.
وفي نهاية المطاف، يبدو أن العالم يتجه حتمًا نحو نظام متعدد الأقطاب، حيث لا يمكن لدولة واحدة أو لمجموعة صغيرة من الدول أن تهيمن بشكل منفرد على القرارات الدولية المصيرية.
وهذا التحول العميق لن يكون سهلًا على الإطلاق، بل سيتطلب مواجهات سياسية واقتصادية، وربما حتى عسكرية. ولكن من المؤكد أن النظام العالمي الذي عرفناه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يقف الآن على أعتاب تغيير جذري وشامل، وستكون الصين ومجموعة "بريكس بلس" في قلب هذا التحول.